لم يكن الاستشراق بريئا عند دراسته للإسلام، فيكشف تاريخه أنه كان الذارع الفكرية للاستعمار، إذ قام المستشرقون ببناء سد منيع من المعرفة المغلوطة في ذهن المواطن الغربي، أعاقت فهم الإسلام، وجعلت بعض الغربيين يعرف الإسلام تعريفيا خطرا بأنه “الدين العدو للمسيحية”، فأنتج أزمات ثقافية وحوارية ما تزال تطل برأسها كل حين، ومن ناحية أخرى لعبت تلك الدراسات دورا في تشكيك المسلمين في دينهم وتراثهم، ورغم ذلك فقد عرف الاستشراق أصواتا منصفة ابتعدت عن التوظيف السياسي لأبحاثها، وجعلت الحقيقة غايتها، لذا قدمت صورة منصفة عن الإسلام وحضارته وشعوبه.

وفي كتاب “الاستشراق النسائي: قصة حضارة في عيون غربية منصفة” لـ”أحمد أبو زيد”، والصادر عن المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة “إيسيسكو” عام 2017 في (188) صفحة، محاولة لتتبع بعض الأصوات المنصفة في حقل الاستشراق النسائي، إذ يقدم عددا من العالمات الغربيات المنصفات اللاتي تخصص في دراسات الشرق والإسلام، وكتبن عن حضارته، ودور تلك الكتابات في تصحيح كثير من التصورات الخاطئة عن الإسلام، خاصة في تقديم صورة منصفة عن حياة النبي محمد -- وقضايا الجهاد والمرأة، وتأثير الحضارة الإسلامية في الغرب، وتصحيح الصورة الذهنية التي تبنى عن الإسلام في الغرب.

المنصفات الكبار

تناول كتاب “الاستشراق النسائي” عددا من الرائدات الكبار في حقل الاستشراق وجهودهن في التعريف بالإسلام، وكيف أن بعضهن جذبتهن أنوار الهداية حتى أوصين أن يكتب عن قبورهن آيات من الذكر الحكيم، وان تسكب آيات من القرآن في تلك القبور قبل أن تغلق عليهن.

وتعد المستشرقة الألمانية “آنا ماري شميل” ،المتوفاة عام (2003) عن عمر يناهز الثمانين عاما، نموذجا فريدا، فهي عميدة الاستشراق الألماني، قضت أكثر من خمسين عاما من عمرها في الكتابة عن الإسلام، ويحسب لها أنها وضعت الأسس الصحيحة للاستشراق، فتناولت أبحاثها كثيرا من جوانب الإسلام وعلومه ومعارفه وآدابه، وترجمت كثيرا منها، حيث كانت تجيد اللغة العربية إلى جانب إحدى عشر لغة أخرى.

كانت “شميل” شغوفة بالشرق، وحصلت على الدكتوراه عام (1941) وهي في التاسعة عشر من عمرها،  حول “مكانة علماء الدين في المجتمع المملوكي”، ونشرتها في المجلة الشهيرة “عالم الإسلام” تحت عنوان “الخلفية والقاضي في مصر في العصور الوسطى المتأخرة”، ووضعت فهارس لكتاب “تاريخ ابن إياس”، ثم حصلت على الدكتوراه الثانية بعنوان”البنية الاجتماعية للطبقة العسكرية في دولة المماليك” وهو ما أهلها للحصول على درجة الأستاذية وهي في العشرينيات من عمرها، واهتمت بالتصوف الإسلامي وحصلت على الدكتوراه الثالثة بعنوان “دراسات عن مصطلح الحب الصوفي في التصوف الإسلامي المبكر” وكانت هذه الرسالة بداية لاهتمامها الواسع بالتصوف.

وفي العام (1952) زارت تركيا واستقرت بها خمس سنوات درست خلالها باللغة التركية في جامعة أنقرة، واقتربت من أشعار “محمد إقبال” وترجمت كتابه “الخلود” إلى الألمانية والتركية، ثم أصدرت عنه كتابين بعد ذلك، وعندما أصدرت كتابها “وأن محمد رسول الله” بالألمانية والانجليزية ثارت ضدها وسائل الإعلام الغربية، فكتبت: “لماذا تلومونني علي حبي ودفاعي عن رسول الإسلام الذي أحبه، في حين لم يتعرض شخص في التاريخ للظلم الذي تعرض له محمد في الغرب”، لكن يبقى كتاب “الإسلام دين الإنسانية” من أروع كتبها، رغم أن أصدرت ما يقرب من (120) مؤلفا وبحثا عن الإسلام.

وتأتي “زيجريد هونكه” تلك المستشرقة الألمانية التي توفيت عام (1999) عن (83) عاما، ويُقال أنها أسلمت في أواخر حياتها، لتحتل مرتبة عالية في المستشرقات الكبار اللاتي دافعن عن صورة الإسلام، ويعد كتبها “شمس الإسلام تسطع على الغرب” الذي أصدرته عام (1960) دفاعا مجيدا عن الحضارة الإسلامية فتقول: “كان إقبال العرب على الكتب واقتنائها، كان يشبه شغف الناس اليوم باقتناء السيارات وأجهزة التلفزيون.. ونمت دور الكتب في كل مكان كما ينمو العشب في الأرض، ففي عام (891م) كانت دور الكتب العامة في بغداد وحدها أكثر من مائة، وحوت مكتبة صغيرة كمكتبة النجف في العراق في القرن العاشر الميلادي أربعين ألف مجلد، بينما مكتبة صغيرة في أديرة الغرب لم تحو سوى إثني عشر كتابا ربطت بالسلاسل خشية ضياعها”، ترجم الكتاب إلى (17) لغة، وبيعت منه أكثر من مليون نسخة، ثم كتابها “الله ليس كذلك”، وكتابها “الإبل على بلاط القيصر” جهود جبارة ويتناول لتناول العقيدة الإسلامية، ومحاولة إيجاد مشتركات للتواصل الثقافي بين العرب والألمان.

أما “كارين أرمسترونج” والتي تركت سلك الرهبنة واتجهت لدراسة الأديان، حتى صارت من أشهر المتخصصين في دراسة الأديان المقارنة، وأعلنت موقفها الرافض لإقصاء الإسلام صراحة في وجه بابا الفاتيكان عندما قالت:”نحن لا نستطيع تحمل إبقاء هذا الإجحاف القديم ضد الإسلام”.

كان العام (1996م) بداية اهتمامها بالكتابة عن الإسلام، إذ أصدرت كتابها “القدس مدينة واحدة وعقائد ثلاث”، حيث اجتهدت “أرمسترونج” في تقديم صورة حقيقية وواقعية عن الإسلام للمواطن الغربي حتى يتمكن من بناء فهم أفضل عن الإسلام، لذا ألفت كتابا في سيرة النبي في ظل تصاعد الأزمة بين الإسلام والغرب حول كتاب “آيات شيطانية” للكاتب الملحد سلمان رشدي، ثم توالت إصدارتها ومنها،”الحرب المقدسة: الحروب الصليبية وأثرها في العالم اليوم”، و”المعركة لأجل الله: الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام”، و”الإسلام: موجز تاريخي”، و”الإيمان بعد 11 سبتمبر” و”محمد ،، نبي لعصرنا” حيث طبع عدة طبعات، وبيعت منه ربع مليون نسخة في الشهر التالي لتفجيرات نيويورك 2001، وهذا هو الكتاب الثاني لها عن النبي محمد .

الدفاع عن القرآن

احتل الدفاع عن القرآن الكريم مساحة معتبرة في كتابات هؤلاء المستشرقات، وتأتي في مقدمتهن،  “لورا فيشيا فاغليري” وهي مستشرقة إيطالية ولدت عام (1893م) وتعد من أوائل المتعاطفين مع الإسلام، حيث درست التاريخ الإسلامي واللغة العربية، وعملت أستاذة للغة العربية والحضارة في جامعة “نابولي” وأصدرت عددا من الكتب المهمة، منها:”الإسلام” عام (1946) إلا أن أشهر كتبها  هو “دفاع عن الإسلام” الصادر باللغة الإيطالية عام 1952، ثم ترجم إلى الإنجليزية، حيث تعتبر “فاغليري” القرآن الكريم معجزة بكل المقاييس، فتقول:” القرآن كتاب لا سبيل لمحاكاته..آياته في مستوى واحد من البلاغة..فهو ينتقل من موضوع إلى موضوع من غير أن يفقد قوته..إننا نقع على العمق والعذوبة معا” ثم تقول:” لا يزال لدينا برهان آخر على مصدر القرآن الإلهي، وهي أن نصه ظل صافيا غير محرف طوال القرون، ويظل على تلك الحالة من الصفاء وعدم التحريف بإذن الله مادام الكون” ثم تقول: “هذا الكتاب لا يوقع في نفس المؤمن أيما حس بالملل..إنه يوقع في نفس من يتلوه أو يصغي إليه حسا عميقا من المهابة والخشية..إن خصوم النبي محمد قاتلوه بالأسلحة، ولكنهم عجزوا عن مضاهاة السمو القرآني”.

أما الإيطالية “ريتا دي ميليو” أستاذة الدراسات الإسلامية بجامعة روما، فتحملت التضييق عليها في عملها وحياتها لموقفها المنصف للإسلام، فهي لم تكتب عن الإسلام إلا بعد دراسة عميقة ومعايشة للمسلمين، ومن أهم كتبها “الإسلام..ذلك المجهول في الغرب” والذي كشف فيه عن مساهمة الإسلام في بناء الحضارة الإنسانية، حيث عرضت الإسلام كدين وثقافة.

وكانت المستشرقة البريطانية المسلمة الليدي “افيلين كوبولد” تلك الشاعر والنبيلة البريطانية والتي توفيت عام (1963) عن عمر جاوز الخامسة والتسعين عاما، نموذجا للمؤمنة التي أنصفت الإسلام أمام قومها، فقد أسلمت عام 1920 واختارت لنفسها اسم “زينب”، وبعد الإسلام ألفت كتابا مهما بعنوان “البحث عن الله“، ثم أدت الحج سنة 1933، وهي تبلغ من العمر (66) عاما، فكانت أول بريطانية تحج، وسجلت رحلتها في كتابها الفريد”الحج إلى مكة” صدر عام 1934، وبه ثلاثون صفحة من الصورة النادرة عن رحلتها في الحج.