حين أخذ الغرب في الاتصال بالعالم الإسلامي، وهو يحاول الخروج من عصوره المظلمة، مستفيدًا من النهضة الإسلامية في مختلف العلوم والفنون؛ فإنه – أي الغرب – لم يدرك قيمة العامل “الروحي” الذي يصنع مع العامل “المادي” حضارة متوازنة، إنسانية، قادرة على تقديم الخير للبشرية؛ فنقل علوم المسلمين دون قيمهم، ظنًّا منه أن هذا وحده يكفي لصنع الحضارة!

يبين الأستاذ أنور الجندي هذا القصور المنهجي في الحضارة الغربية قائلاً: “فالحضارة الغربية قد أخذت من المسلمين (المنهج التجريبي)، ولكنها رفضت منهج المعرفة ذي الجناحين (المادي والروحي)؛ ومن هنا، فقد فصلت بين المنهج والتطبيق، وأعلت مفهوم العلمانية والمادية والوثنيات القديمة؛ فعجزت عن معرفة أبعاد الصلة بين الله تبارك وتعالى وبين المجتمعات والحضارات؛ هذا البعد الإلهي الغائب، هو وحده القادر على حماية حركة الحضارة من الانهيار والتمزق والتصدع، إذا هي عادت إليه واستمسكت به.

ويوضح الجندي أنه بناءً على هذا الانفصال ظهرت تلك المفارقات العجيبة؛ ففي مجتمع الوفرة تبرز ظاهرة الانتحار، ونبذ الأبناء للآباء، والقضاء على المريض إذا تعذر الشفاء [قتل الرحمة!]، والاستعلاء بالعنصر والدم، وتصور الأمم الملونة وكأنها من طينة أخرى، على النحو الذي كان سائدًا في حضارة الرومان مع اختلاف طفيف هو: وضع مخالب العدوان في قفازات حريرية”([1]).

وقد عبر كثير من الغربيين الذين أسلموا عن الأزمة التي يعيشها الغرب، في كتابات رصينة؛ وجاءت تلك الكتابات بمثابة “شهادة عيان” على عمق الأزمة وتجذرها؛ ومن ثم كان هذا القلق النفسي والخواء الروحي الذي تغرق فيه المجتمعات الغربية، دافعًا قويًّا لهم للبحث عن منقذ وهادٍ، يردُّ النفس الهائمة إلى فطرتها الأولى.

العالم الغربي كلما أوغل في التقدم العلمي، زادت حاجته إلى ما يسكِّن نفسه، ويطمئن روحه

يصور السفير مراد هوفمان هذه الأزمة التي وصل إليها الغرب، وانعكاسَها على القيم، وكيف أن التقدم الاقتصادي لا يخفف من تلك الأزمة بل يزيد من سعارها، فيقول: “يبدو من الواضح الآن أن التقدم الاقتصادي في الغرب يكاد ينسف أو يسمم نفسه، كلما حقق المزيد من النجاح؛ إذ كلما ارتفع مستوى المعيشة وازداد الرخاء العام، اتجه هذا النظام نحو تقويض الأسس التي تمكنت حتى الآن من تثبيت دعائمه. وفي هذه العملية تتجه القيم العريقة نحو الانحراف، ويمكن أن تتحول الفردية إلى النرجسية، وتقرير المصير إلى فوضى, والتسامح إلى تحييد للقيم، والمرونة إلى نبذ للتقاليد، والرخاء إلى عبادة المتعة، والكد إلى الإفراط في الاستهلاك، والاقتصاد إلى إدمان العمل، والتنافس إلى تسابق دامٍ، والحساسية إلى وسوسة، والأخوة إلى شمولية، والمساواة إلى التدني، والثقة في الله إلى عقلية تفتقر إلى المبادرة”([2]). أي تتصف بالتواكل، لا التوكل.

بل يذهب هوفمان إلى أبعد من ذلك، مؤكدًا أن هذا الانحراف يهدد جميع الأديان، بما في ذلك دين الغرب نفسه، وذلك “من خلال نشره لقيم مؤسسة على فروض مادية محضة. إن الفكر النفعي، وتحقيق أقصى ربح، وعبادة زيادة الإنتاج بشكل مستمر، وأسطورة التقدم اللانهائي، وغطرسة علماء العلوم الطبيعية الذين تحولوا إلى فلاسفة، واستشراء مذهب اللاأَدْرِية وتحييد القيم الأخلاقية لدى المتعلمين؛ كل ذلك يحدد التوجه الغربي الكامل نحو إضفاء طابع عقلاني على كل مظاهر الحياة، مما يشكل عدوانًا غاشمًا على الأديان”([3]).

ولذا يمكننا القول: إن العالم الغربي كلما أوغل في التقدم العلمي، زادت حاجته إلى ما يسكِّن نفسه، ويطمئن روحه، ويجيب له عن الأسئلة الكبرى التي شغلت المفكرين والفلاسفة؛ منذ أن حاولوا استكناه حقائق الحياة ونشأتها ومآلها.

وفي هذا الصدد، يؤكد هوفمان أن المنهج الإسلامي هو المنقذ للغرب من أزمته الراهنة، بعد أن فشلت مناهجه الأرضية، قائلاً: “إن هذا الجيل يشعر بحاجته الملحة إلى مقومات أيديولوجية ودينية، ولايزال هذا الاحتمال ضائعًا في وقتنا الحاضر؛ إذ لايزال الشباب متأرجحًا ما بين بدائل الماركسية [كان هذا قبل سقوط الاتحاد السوفييتي]، ومذهب الحقد، والباجواش؛ ومع ذلك فليس من المستبعد أن تجد هذه الحاجة الملحة إلى الالتزام الديني والرضا الديني ضالتَها في اعتناق دين غير أوروبي مختلف تمامًا، يروق للشباب، حيث يجدون فيه ترياقًا شافيًا من شرور المادية، وتوثيقًا لعرى الأخوة، وتخلصًا من الطبقة السلطوية الدينية، وقادرًا بطبيعته على أن يكون دين الفطرة: أي الإسلام”([4]).

العالم المعاصر لا يحتاج من المسلمين أن يُسهموا في تقدم العلم والحضارة بالقدر نفسه الذي يحتاجه إلى عقيدة الإسلام

فإذا كان عالمنا المعاصر على هذا النحو من التأزم والإفلاس والخواء، وإذا كان الإسلام بالنسبة إليه على هذا النحو من الإلحاح والأهمية؛ لأنه- أي الإسلام- “ليس سبيلاً بين السبل، ولكنه السبيل؛ وإن الرجل الذي جاء بهذه التعاليم ليس هاديًا من الهداة، ولكنه الهادي”، كما يقول محمد أسد([5]).. فإن الإسلام بإمكانه أن يقدم الكثير ليخرج العالم المعاصر من أزماته.

وعلى رأس ما يمكن أن يقدمه الإسلام؛ تأتي عقيدتُه الربانية- المتصفةُ بالوضوح، والتعقُّل- ونموذجُه المعرفي الذي يتكامل فيه العقلُ مع النقل، ووسطتُيه التي تجمع في اتّزانٍ بين حاجات الروح ومتطلبات الجسد.

فالعالم المعاصر لا يحتاج من المسلمين أن يُسهموا في تقدم العلم والحضارة- وإنْ كان هذا مطلوبًا، وممكنًا- بالقدر نفسه الذي يحتاجه إلى عقيدة الإسلام وتشريعه وأخلاقه؛ فهذه هي الثغرات الأساس التي تؤرقه، ولن يجد منهجًا غير منهج الإسلام بإمكانه أن يسدها له.

يقول العلامة أبو الحسن الندوي: “فالعالم الإسلامي لا يؤدي رسالته بالمظاهر المدنيّة التي جادت بها أوروبا على العالم، وبحذق لغاتها، وتقليد أساليب الحياة التي ليست من نهضة الأمم في شيء؛ إنما يؤدي رسالته بالروح، والقوة المعنوية التي تزداد أوروبا كل يوم إفلاسًا فيها، وينتصر بالإيمان والاستهانة بالحياة، والعزوف عن الشهوات، والشوق إلى الشهادة، والحنين إلى الجنة، والزهد في حطام الدنيا”([6]).

ما أثقل التبعة على المسلمين إذن! وما أحوجهم إلى أن يكونوا رسلاً صادقين عن المنهج الذي يحملون، وصورةً حسنةً لما يمكن أن يقدمه الإسلام لأزمة العالم المعاصر!


([1]) تأصيل اليقظة وترشيد الصحوة، الجندي، ص: 123، دار الاعتصام، بدون رقم الطبعة وسنة النشر.
([2]) يوميات ألماني مسلم، هوفمان، ص: 147، ترجمة د. عباس رشدي المعماري، مركز الأهرام للترجمة والنشر، ط1، 1993م.
([3]) المصدر نفسه، ص: 80.
([4]) المصدر نفسه، ص: 148.
([5]) الإسلام على مفترق الطرق، أسد، ص: 110.
([6]) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، الندوي، ص: 234، دار الإيمان، المنصورة، بدون تاريخ.